كلام الليل يمحوه النهار».. مقولة قد تصدق إلا في الصحف! فالصحفيون ينكبون على تدوين تقاريرهم وأخبارهم وموادهم الصحفية في الفترة المسائية.
وحين يأتي الصباح تكون كل المواد منشورة على الملأ دون أن يمحوها ضوء النهارأو تبخرها أشعة الشمس!!
كلام الليل يبدو صادقا ومؤثرا ومدغدغا للمشاعر وقت حدوثه. والسبب أن الظرف الزماني يلعب دورا في تغييب العقول. فيهيئ النفوس لتصديق ما لا يصدقه العقل عادة. وقد تجد الأساطير والأكاذيب مجالا خصبا للتأثير على الوعي فتسلبه وتكبل إرادته. والسبب أن السماع يكون بالقلب الغر لا العقل الناضج.
أذكر كيف كانت حفلات أم كلثوم الشهرية تسلبنا كل إرادة.. كان الملايين يتابعون الأمسيات الغنائية لكوكب الشرق عبر مذياع القاهرة، كم كانت مشاعرنا تلتهب حد الانتشاء!! وكم كانت عقولنا تترنح حد الإغماء!! كنا نعيش أغاني «ثومة» فنشعر أن الكون كله يتقمص نجوانا، وكنا نذوب مع كل نغمة فنستشعر وجودنا في لجة الموسيقى العذبة النقية التي تأسر القلب ولاتترك مجالا للفكاك أو الانفلات! غنت أم كلثوم في ذلك الزمن لليل وشؤونه، وللمساء وشجونه، وللقمر وأسراره، وللقلب وأشعاره، كانوا يهمسون لمشاعرنا بعذب الحديث فتنفلت العقول.. وتجمح الأحاسيس وترتفع الآهات.. ونغيب في سعادة بلا ضفاف.
وفي عوالم من السعادة بلا نهايات! اسألوا الليالي الغابرات عما كانت تحدثه أم كلثوم فينا، واسألوا سويعات المساء عما فعلته ليالي الشجن والشجا في قلوب صويحبكم وأقرانه! اسألوا الزمن الجميل واسألوا الليالي الحالمة وستعرفون كيف تكون الليالي ليالي وكيف يكون كلامها كلاما!! ها قد انفض السامر.. وأسفر الصبح.. وتبخر كلام الليل. ولم يتبق سوى ما نحرره داخل مكاتبنا في الصحف، ليبقى صدى لواقع يتوارى خلف ضباب الزمن.. حين يقلب الآخرون أوراق الجريدة، ويبحرون عبر أسطرها مع صباح يوم جديد!!